March 20, 2024

منظمات مصممة للفوز .. أفراد بارعون وقادة استثنائيون

منظمات مصممة للفوز .. أفراد بارعون وقادة استثنائيون

جرت على ألسنة الشعوب المختلفة الحكمة الشعبية القديمة: إن من يطارد أرنبين، سيفشل في اصطياد أي منهما. وامتد أثر استعمال مغزى المثل الشعبي إلى قادة الأعمال من مختلف الصناعات، فبرزت أهمية التركيز ورسم الحدود الاستراتيجية وتحديد السوق المستهدف كنتائج مهمة لا تزال تؤثر في عملية التفكير الاستراتيجي المؤسسي. ولكن هل هنالك فرصة لرؤية الأمور من منظور مختلف؟

تحدي البراعة هو أحد أهم التحديات في العصر الحديث للأعمال على مستوى المنظمات وعلى مستوى الأفراد والقادة،حيث يعمل هذا التحدي على تطوير الفكر التنظيمي داخل منظمات الأعمال كتوجه استراتيجي، هو أيضا يعمل على مستوى الأفراد بمختلف مستوياتهم داخل المنظمات من حيث امتلاك المهارات والمعارف والفكر الإداري والسلوك المهني والقيادي لضمان التفوق على تحديات الأعمال في عالم الثورة الصناعية الرابعة والخامسة وما بعدهما.

بالمجمل تحافظ القيادات التنفيذية في منظمات الأعمال على استقرار الأعمال من خلال الانضباط الشامل لضمان الاستمرار بنمط التفكير الحالي المتمركز حول المحافظة على قيم الفوز في الوضع الراهن والتركيز على نهج تحقيق الانتصارات المتوالية من منظور قصير المدى: كما نجحنا بالأمس والربع السابق والأرباع العشرة الماضية. هذا الإصرار ينبع من الثقة في المعرفة القديمة التي قادت لهذا النجاح المستمر باعتبارها الحل المضمون لاستدامة النجاح. فهذه المعادلة لا زالت تعمل بكل كفاءة وتؤكّد ذلك النتائج الربعية والسنوية.

يتسم عالم ما بعد جائحة كوفيد-19والثورة الصناعية الرابعة والخامسة بالغموض الشديد وعدم الوضوح والتعقيد وتسارع وتيرة التغيير التقني والاجتماعي والاقتصادي في ظروف سياسية تتسم بالتعقيد والتشابك لدرجة تربك سير الأعمال وتقوض منافع العولمة الاقتصادية. يبرز في هذا المحيط العام "تحدي البراعة" على مستوى المنظمات والأفراد والقادة كأحد الحلول التي يتوقع أنها قادرة على تيسير الإبحار في هذا العالم بشكل أفضل.

وسأبدأ بتفكيك مفهوم هذا التحدي، "تحدي البراعة" أولا على مستوى المنظمات ثم على مستوى الأفراد فالقادة.

منظمات بارعة

هي المنظمات القادرة على الموازنة بين متطلبات "الأداء" والنمو للمنافسة في المدى القصير، ومتطلبات "التحول" والتجديد الذاتي للمنافسة والقيادة في المستقبل غير المنظور. منشأ التحدي هو الإفراط في الميل لأحد الجانبين المذكورين لضمان اصطياد أرنب واحد على الأقل. من نافلة القول التذكير بأن كلا الجانبين مهمين لإدارة أي منظمة أعمال تبحث عن النمو وتعظيم الربحية واستدامة الأفضلية التنافسية على المدى الطويل والعائد المقدم للملاك وحملة الأسهم.

تميل الكثير من المنظمات لجانب الأداء قصير المدى بسبب الضغوط التنافسية وضغوط الملاك وحملة الأسهم وضغوط محللي الأسواق والمصارف ومدراء الصناديق الاستثمارية حيث يبحث الجميع عن العوائد والمكافآت في المدى القصير.

في كتابه معضلة المبتكر (Innovator’s Dilemma) يفصل البروفيسور الراحل كلايتون كريستنسن في ما يمكن تسميته بمفهوم "لعنة النجاح" عن فشل الشركات العظيمة، ليس أي شركات ولكن الشركات التي تدار بشكل مميز، وتستثمر بشكل جاد في التقنية، وتنصت لعملاءها باهتمام، ولديها حس تنافسي عالي، وبالرغم من كل ذلك تفشل في المحافظة على مركزها التنافسي وتسيدها للسوق.

في كتابهما "عن القيادة والزعزعة" يقدم أورايلي وتوشمان وصفتهما لمعالجة "معضلة المبتكر" ويقدمان نموذجا لعمل المنظمات يرتكز على التحرك على الجانبين المذكورين من خلال تأسيس وحدات مستقلة داخل المنظمات تعنى بالاستكشاف والابتكار فتركز على جانب التميز في التحول فيما تعمل وحدات المنظمة الأخرى على المسار التقليدي للتميز في الأداء والمنافسة.

المسألة لا تتوقف عند استحداث مناصب وظيفية وإعادة هيكلة المنظمة، فالتغيير المطلوب أعمق من ذلك بكثير ويتضمن تحديات تشمل إعادة تصور المنظمة في شكلها المستقبلي وما هي قيم المستقبل والجدارات المهنية لوظائف المستقبل وما هو نوع القدرات البشرية والتقنية المطلوبة للنجاح في المستقبل ثم البدء بأحد أهم التحديات وهو "تحدي التخلي" عن معرفة الماضي التي لا مكان لها في المستقبل المتصور، ثم إتباع ذلك بتحدي التعلم والتحلي بقيم جديدة وعادات جديدة وفكر مؤسسي يتحدث لغة المستقبل ويستكشف المجهول. وهذا يقودنا إلى تحدي بناء أفراد بارعين.

أفراد بارعون 

لا يزال العالم من حولنا كما استمر لعقود عديدة، يحترم ويروج لنموذج التخصص وينظم المسارات المختلفة في المجالات المتنوعة لتجويد المهارات والمعارف الشخصية في مجال معين، استفادت مختلف التخصصات من هذا التوجه مثل الطب والهندسة والقانون والفنون والرياضة والآداب، وتطور الإعجاب بالتخصص لتقديم الشهادات المهنية أو تنظيم المسابقات الرياضية أو مهرجانات الفنون للتدليل على أن مجتمع المتخصصين في مجال معين يتسم بروح المنافسة بإمكانه إخراج أفضل إبداعات هؤلاء الأفراد ضمن مجتمع هذا التخصص أو ذاك. هذا بالتأكيد أمر محمود ومرغوب ولا ينبغي التقليل منه بأي شكل من الأشكال.

في كتابه المدى (Range) يجادل ابستاين أن العالم اليوم بحسب التصور الذي ذكرناه في مقدمة هذا المقال يحتاج لأشخاص متعددي المهارات والمعارف وعلى اطلاع واسع وانفتاح على مجموعة من العلوم والمعارف والمهارات والتخصصات، يقول أيضا أن أمثال هؤلاء الأشخاص قادرون على الابتكار بشكل أفضل لأن تنوع مهاراتهم ومعارفهم يتيح لهم استعارة الحلول والأفكار من مختلف المجالات والصناعات والمعارف والمهارات التي يتقنونها.

تعدد المواهب والمعارف والمهارات كما يراه آدم جرانت في كتابه (The Originals) هو أحد المشتركات بين المتوجين بجائزة نوبل، والذين برغم التوقع المبدئي أن تميزهم بهذه الجائزة هو نتيجة منطقية لتخصصهم العميق في مجالهم إلى مستوى يجعلهم على قمة هرم التخصص في فروع العلوم والمعارف التي قادت لتتويجهم بهذه الجائزة المرموقة، إلا أن التقصي يكشف تعدد مهاراتهم ومواهبهم في مجالات مختلفة من الفنون والآداب تضاف إلى تخصصهم العميق في مجال الجائزة الممنوحة.

هذه الملاحظات تعيد للذاكرة "النموذج الموسوعي" وهو ما كان عليه جمع غفير من العلماء والفلاسفة القدماء الذين كانوا يبرعون في العديد من المجالات النظرية والتطبيقية وكانت ولا تزال كتاباتهم ومعارفهم إلى اليوم من مصادر الإلهام والاسترشاد.

قادة استثنائيون

قادة التحول المزدوج، قادة استثنائيون لما يتطلبه هذا الأسلوب القيادي من تحديات خاصة في الموائمة بين المتطلبات المتعارضة في القيادة. منظمات المستقبل في عهد الثورة الصناعية الرابعة والخامسة وما بعدهما، منظمات متمحورة حول تكامل الإنسان مع الآلة والاستدامة وتخصيص الخدمات والمنتجات على نطاق واسع بالاعتماد على البيانات بحيث تتحول المنظمات إلى مصانع قرارات في كل دقيقة وثانية. 

وجود أفراد بارعين هم نواة فرق العمل يتمتعون بالمعارف والمهارات المتنوعة يضع المنظمات المصممة للفوز في وضع تنافسي ملائم حيث يتحرك الأفراد ضمن فرق العمل المختلفة بمرونة ويتكيفون مع التغييرات في بيئة الأعمال والسوق والمنظمة بثقة وسرعة باعتبار ذلك جزءا من ثقافة المنظمة وممارستهم اليومية المعتادة. اكتساب مهارات جديدة يتم من خلال بذل الجهد في التعلم الذاتي عبر وسائل التقنية الحديثة. تسارع التعلم والتكيف يضمن المرونة المؤسسية اللازمة لتغيير الاتجاه وإنجاز تحولات واسعة النطاق اعتماداً على أنظمة وأفراد جاهزون دائماً.  

 يتمتع القادة الاستثنائيون بسلوك قيادي فريد يوازن بين متطلبات التميز في "الأداء" والنمو في المدى القصير، ويقود بفاعلية مسارات التميز في "التحول" باستكشاف الفرص المستقبلية وقيادة الابتكار والتجديد الذاتي للمنظمة. 

القادة الاستثنائيون يتميزون في مجال قيادة الاستراتيجية تخطيطا وتنفيذاً. كذلك يتميزون في قيادة فرق العمل البارعة بالموائمة بين القيادة من الخلف عبر التوجيه والتفويض والتمكين، والقيادة من الأمام عبر الإلهام والتحفيز والمحاسبة. 

من الجوانب الهامة في القيادة الاستثنائية التي تحمل ضغوطا متعارضة: قيادة أصحاب المصلحة الداخليين والخارجيين ومتطلبات العمل من خلال شبكات التواصل الرسمية وغير الرسمية داخل المنظمة وتحديد مكامن الأهمية والتأثير لأصحاب المصلحة المتنوعين وتحديد الأسلوب الأمثل للوصول لنقاط الالتقاء والاتفاق لتحقيق أفضل نتائج تخدم مصالح جميع الأطراف. 

خاتمة 

تكتشف العديد من المنظمات في وقت متأخر عادة أنها بحاجة لملاحقة المنافسين وتسريع وتيرة الابتكار وتوصيل منتجات أكثر للسوق، وتقود هذه العجلة لنتائج عكسية في المدى القصير لأنها مدفوعة بالاستعجال ومخالفة قيم المنظمة الراسخة وثقافتها المتجذرة. هنا يأتي دور المنظمات المصممة للفوز من خلال إتقان الموازنة بين الأداء والتحول، والأفراد البارعين القادرين على التكيف والابتكار، والقادة الاستثنائيين الذين يدمجون بين التميز في الأداء القصير الأمد ورؤية التحول طويل الأمد لتقديم هذه الديناميكية على سبيل استدامة النجاح والتفوق في ساحة الأعمال المعاصرة، حيث يتطلب النجاح أكثر من مجرد الإلمام بالمعرفة التقليدية، إنما يتطلب فهمًا عميقًا لتحديات الغد والقدرة على الإبحار فيها ببراعة واستباقية.