في العلاقة المتشابكة بين التحكم والابتكار تكمن مفارقة أربكت العديد من المؤسسات الكبرى. التحكم، الذي يُعتبر أساس النظرية التقليدية للإدارة، غالبًا ما يتعارض مع الطبيعة الحرة والإبداعية للابتكار. هذا التوتر ليس بجديد؛ بل يعود جذوره إلى أوائل القرن العشرين وأعمال فريدريك تايلور الذي ركز على الإدارة العلمية التي تقوم على الكفاءة والتوحيد المركزي للسلطة.
وجهات نظر تاريخية حول التحكم والابتكار
إدارة فريدريك تايلور العلمية
نظرية تايلور التي تُعرف بـ “التايلورية” كانت تهدف إلى تحسين الإنتاجية من خلال مهام دقيقة قابلة للقياس وإدارة مركزية صارمة. هذه الرؤية الميكانيكية للإدارة ركزت على الكفاءة والتوقعات الثابتة، لكنها غالبًا ما جاءت على حساب الإبداع وحرية الإنسان.
نظرية العلاقات الإنسانية لإلتون مايو
في المقابل، كشفت أعمال إلتون مايو في تجاربه في مصنع “هاوثورن” عن الأثر العميق للعلاقات الاجتماعية ورضا العاملين على الإنتاجية. أظهرت دراساته أن الموظفين يتحفزون من خلال تلبية احتياجاتهم الاجتماعية، وأن إنتاجيتهم تزيد عندما يشعرون بالتقدير والاندماج في مجتمع العمل. كانت هذه نقلة نوعية عن أساليب التحكم الصارمة التي دعا لها تايلور.
هرم ماسلو للاحتياجات ونظرية مينتزبرغ
جاء التطور لاحقًا مع هرم أبراهام ماسلو للاحتياجات، الذي أوضح أن الدافع البشري ينبع من تسلسل احتياجات يبدأ من الاحتياجات الأساسية وصولًا إلى تحقيق الذات. وفقًا لماسلو، فإن تحقيق الإبداع والابتكار لا يتحقق إلا بعد تلبية الاحتياجات الأساسية. أما هنري مينتزبرغ فقد أضاف أن المنظمات هي هياكل اجتماعية ينبغي أن تولي الأولوية لاحتياجات الإنسان ودوافعه.
انتقادات جاري هاميل المعاصرة
في كتبه ما يهم الآن والإنسانوقراطية، انتقد جاري هاميل الهياكل البيروقراطية والهرمية التي تعرقل الابتكار. ودعا إلى منظمات أكثر إنسانية ومرونة، حيث يتم تحقيق توازن بين التحكم والحرية، ويتم تمكين الموظفين من المساهمة بإبداع. سلط هاميل الضوء على عيوب البيروقراطية المفرطة، داعيًا إلى ثقافات عمل ديمقراطية وموجهة بالقيم.
نظام الخوف مقابل نظام السعي وفقًا لدان كابل
في كتابه Alive at Work، استكشف دان كابل الدوافع العصبية وراء الابتكار، مشيرًا إلى “نظام الخوف” أو Fear System و ”نظام السعي” أو Seeking System. يتم تفعيل نظام الخوف من خلال التحكم والإدارة الدقيقة، مما يؤدي إلى الامتثال ولكن أيضًا إلى قمع الابتكار.
في المقابل، يتم تنشيط نظام السعي من خلال الاستقلالية، والغرض، وفرص الاستكشاف، مما يعزز الإبداع والابتكار. تدعم أفكار كابل الآثار السلبية للبيئات المتحكمة للغاية والفوائد العظيمة لتعزيز الحرية والتمكين في مكان العمل.
عيوب النظم الفكرية الحالية وأساليب القيادة
النموذج السائد حاليًا في العديد من المؤسسات يتسم بما يلي:
- البيروقراطية المفرطة: العمليات المعقدة والصارمة التي تبطئ اتخاذ القرارات وتعرقل الإبداع.
- مركزية السلطة: تركيز اتخاذ القرار في قمة الهرم الإداري، مما يؤدي إلى فقدان الشعور بالملكية والمشاركة لدى الموظفين.
- الإدارة القائمة على الخوف: ثقافات العمل التي تفضل تجنب المخاطر والامتثال على حساب التجريب والتعلم.
- التركيز على المدى القصير: الاهتمام بالنتائج الفورية على حساب الابتكار طويل الأمد وتطوير الموظفين.
- غياب الأمان النفسي: بيئات يشعر فيها الموظفون بالخوف من التعبير عن أفكارهم أو اقتراح تغييرات أو تحدي الوضع الراهن.
توصيات لتبني قيادة تحفيزية وتحويلية
للتغلب على هذه العوائق وتعزيز ثقافة الابتكار، يجب على القادة تبني نهج أكثر إنسانية وتحفيزًا. وفيما يلي خمس توصيات:
1.تبني القيادة الخادمة: التحول من عقلية التحكم إلى خدمة وتمكين الموظفين، والتركيز على نموهم ورفاهيتهم وتطورهم المهني.
2.لامركزية اتخاذ القرار: توزيع السلطة وتمكين الفرق من اتخاذ القرارات، مما يعزز الشعور بالملكية والمرونة وسرعة الاستجابة للتغيير.
3.تعزيز الأمان النفسي: خلق بيئة يشعر فيها الموظفون بالأمان للتعبير عن الأفكار والمخاطرة والفشل دون الخوف من العقاب.
4.تعزيز عقلية النمو: التركيز على التعلم والتطوير بدلًا من الأداء قصير المدى. تشجيع التحسين المستمر والتجريب والمرونة في مواجهة الفشل.
5.مواءمة الغرض والقيم: ضمان أن تتماشى أهداف المنظمة مع قيم الموظفين وأهدافهم الشخصية. هذا يعزز الدافع الداخلي والالتزام العميق بمهمة المنظمة.
من خلال إعادة تعريف أساليب القيادة والهياكل التنظيمية لتكون أكثر شمولية وتمكينًا وإنسانية، يمكن للمؤسسات إطلاق العنان للإمكانات الإبداعية لموظفيها وتصبح أكثر قدرة على التكيف والابتكار في مواجهة التغيير. هذا التحول ليس مجرد خيار، بل ضرورة لتحقيق النجاح المستدام في بيئة الأعمال سريعة التطور اليوم.