في عالم الأعمال المتقلب، تمثل الميزة التنافسية المستدامة على المدى الطويل الهدف الأسمى للشركات الطامحة إلى تعظيم القيمة والهيمنة في السوق. السعي وراء هذه الميزة يدفع الشركات إلى تبني استراتيجيات مختلفة، كل منها يقدم رؤية فريدة حول كيفية تحقيق النجاح والمحافظة على موقف تنافسي تفضيلي.
ومع تزايد المنافسة وتسارع التغيير وتذبذب النتائج، تبدأ عملية مساءلة الذات من الخيارات الاستراتيجية، لماذا ينبغي أن نلتزم بخيار استراتيجي أو نموذج محدد، ولماذا لا نستطيع أن نكون كل شيء لكل عميل؟
من النظرة الكلاسيكية إلى مفاهيم الابتكار في نماذج الأعمال والزعزعة الرقمية، يسلط هذا المقال الضوء على كعكة استراتيجية مكونة من ثلاث وجهات نظر رئيسية حول المنافسة والميزة التنافسية، ويختتم المقال بإضافة “الكرزة على الكعكة” - كما يقال - والتي تعيد تعريف هذا السعي نحو التميز المستدام وتعزز الإجابة على سؤال المقال.
أولا: استراتيجية المنافسة الكلاسيكية وملخصها هو: "يمكنك إتقان استراتيجية واحدة فقط"
هنالك خياران استراتيجيان متاحان بطريقة "إما .. أو" ما يجعل من عملية صياغة الاستراتيجية خياراً محدداً للشركة فإما أن تختار استراتيجية القيادة في التكلفة أو تختار استراتيجية التميز في الخدمات والمنتجات، أو النسخة المركزة من إحداهما لاستهداف شريحة مخصصة من السوق.
تقف النظرة الكلاسيكية الأكثر تأثيراً لمايكل بورتر حول الاستراتيجية التنافسية أمام تحدي الزمن، وعلى الرغم من رأي الكثيرين بأن التاريخ قد تجاوزها - إلا أن الحقائق على أرض الواقع تؤكد إنها لا تزال ذات صلة بتحديات الأعمال اليوم، والشركات في الغرب والشرق تسعى لخلق ميزة تنافسية مستدامة لتحقيق الهيمنة في أسواقها والفوز بكل شيء مستفيدة من أفكاره ونموذجه في استراتيجية الميزة التنافسية وتحليل الصناعة.
استراتيجية القيادة في التكلفة لا تعني عرض منتجات أو خدمات أقل جودة أو أقل سعراً،ولكنها تمنح الشركة ميزة مهمة من حيث مدى هوامش الربحية المتاحة لمقاومة المنافسين الذين يحركون القوة التفاوضية للمستهلكين نحو خيارات أو بدائل أقل سعراً.
في حين أن استراتيجية تمييز المنتجات والخدمات من حيث الخصائص والمزايا والمنافع والقيمة المقدمة للعميل تعمل على سبيل تبرير السعر الأعلى - لمنتج أو خدمة ما - نظير المنافع والمزايا الإضافية التي يقدمها المنتج أو الخدمة وتعززها قيمة العلامة التجارية ويصعب تقليدها أو إيجاد بدائل لها مقارنة بالمنافسين.
الرأي السائد وفق هذه النظرة الكلاسيكية هو أنه لا يمكنك تحقيق ميزة تنافسية مستدامة لشركتك تعتمد على القيادة في التكلفة في وقت تعتمد فيه على تميز علامتك التجارية وتقوم فيه بتحميل منتجاتك أو خدماتك بالمزايا والخصائص التي لا تتوفر لدى المنافسين، حيث أنه لابد أن ينتج عن مزيد من المزايا والمنافع والخصائص ارتفاع في التكلفة يصاحبه تحجيم لهوامش الربحية. ولتجنب مأزق الحفرة التي في المنتصف - بحسب تعبير بورتر - لابد من تحديد استراتيجية عامة، فنخلص بالنتيجة إلى أن إتقان استراتيجية واحدة والالتزام بمقتضياتها هو الخيار الأمثل وفق هذه النظرة.
استمرّ هذا الرأي سائداً رغم الاستثناءات الواردة عليه إلى أن اخترق مشهد استراتيجية المنافسة نظرة غير تقليدية نستعرضها فيما يلي.
ثانيا: النظرة الزرقاء والتي تحمل لك رسالة مختلفة: "يمكنك في الواقع إتقان كلتا الاستراتيجيتين معاً"
هذا النظرة تعتمد بالأساس على نظرية استراتيجية المحيط الأزرق، وتعتبر المراجعة الأهم والأكثر استحواذا على الاهتمام خلال الثلاثين عاما الماضية كرؤية قدمت بديلا فعالا للنظرة الكلاسيكية وتطرح تحديا جديدا مفاده أنه يمكنك عملياً بناء نموذج عمل ذو ميزة تنافسية مستدامة لوقت طويل بالتركيز على الاستراتيجيتين في نفس الوقت، استراتيجية القيادة في التكلفة واستراتيجية التميز في الخدمات والمنتجات وذلك من خلال تطبيق مفهوم "الابتكار في القيمة" والذي يبدأ بتحييد أساليب وتكتيكات المنافسة التقليدية المعتمدة على التصادم مع المنافسين.
وفق هذه النظرة فالشركات لا تقوم فقط بإضافة ميزات وخصائص ومنافع إلى منتجاتها وخدماتها لتمييزها عن المنتجات والخدمات المنافسة، ولا تقوم فقط بإزالة الميزات لتقليل التكلفة بهدف تحسين هوامش الربحية واستهداف الشرائح الأدنى في السوق، بل تقوم بكليهما معًا لخلق عرض قيمة فريد لا يمكن للمنافسة القائمة في السوق تقديمه ولا يمكن تقليده بسهولة.
هذه القيمة الفريدة التي يقدمها نموذج العمل وفق استراتيجية المحيط الأزرق لا تعتمد على المنافسة من خلال حروب الأسعار ولا الهوس باستقطاب عملاء المنافسين والاستحواذ على الطلب المتاح في السوق الحالي، ولكن تقوم بخلق أسواق جديدة وطلب جديد وتتحدى المفاهيم السائدة من خلال طرح أسئلة جريئة تعيد تعريف الممارسة الأمثل وحدود النشاط والصناعة.
ولكن هل تنتهي القصة عند إتقان الاستراتيجيتين المذكورتين معاً؟ ليس بالضرورة.
يقدم لنا مؤلفو كتاب "الدوامة الرقمية" نظرة إضافية ورؤية ملهمة استناداً على نماذج الأعمال الرقمية الأكثر تأثيرا في عالمنا اليوم.
ثالثا: الزعزعة المركبة حيث يتم دمج كل ما سبق وزيادة، للمفاجأة "يمكنك في الواقع إتقان كلتا الاستراتيجيتين وأكثر"
تقترح هذه النظرة رؤية فريدة من نوعها من حيث خلق القيمة أو الاستحواذ عليها، وتركز على مقاربة مصممة لدراسة القيمة المقدمة للعملاء عبر خمسة عشر نموذج عمل مختلف تندرج تحت القيم الثلاثة التي يتوقع أن يقدمها أي نموذج عمل للعملاء وهي “قيمة التكلفة" أو "قيمة التجربة" أو "قيمة المنصة".
يحصل العملاء على "قيمة التكلفة" عبر أسعار منخفضة للخدمات والمنتجات نتيجة انخفاض تكاليف نموذج العمل الرقمي الذي يوصل هذه المنافع للعملاء عبر أسعار تفضيلية. ومن الأمثلة على ذلك تطبيقات مقارنة الأسعار بين المنافسين حيث تضمن الشفافية والمعلومات المتاحة حصول العميل على السعر الأفضل. أما "قيمة التجربة" فيحصل العميل عليها مثلا من خلال خيارات الخدمة الذاتية عبر الهاتف النقال التي تقدم الراحة والتحكم للعميل من موقعه، مثل حلول التقنية المالية أو خدمات النقل التشاركي وتوصيل الأطعمة.
يبقى معنا "قيمة المنصة" ويمكننا باختصار التمثيل لها بالمنصات الرقمية كمثال حلول "اشتر الآن وادفع لاحقاً" والتي تعمل ليس فقط على مستوى المستهلكين كعملاء مستهدفين للشراء ولكنها تعمل أيضا على مستوى التجار كعملاء للمنصة يقومون بعرض منتجاتهم ومع زيادة عدد التجار وزيادة عدد المستهلكين وزيادة عدد المنتجات المعروضة تزيد الفرص وترتفع قيمة المنصة تبعاً لمفهوم تأثير الشبكة.
بحسب منظور "الزعزعة المركبة" فإن سير الشركات في اتجاه إتقان التوجهات الاستراتيجية الثلاثة للقيمة (التكلفة والتجربة والمنصة) يضعها في موقع سحق المنافسة عن طريق تعميق الزعزعة في السوق. ويمكن التمثيل لذلك بالمثال المذكور أعلاه عن منصات اشتر الآن وادفع لاحقاً حيث أن ضمان حصول العميل على أفضل سعر من خلال وجود أكثر من تاجر يعرضون نفس المنتج يعزز قيمة التكلفة فيما تلعب عملية الدفع دوراً مهما في تعزيز قيمة التجربة حيث يتم دمج خيار الدفع في سلة التسوق مع خيار التمويل أو التقسيط بسلاسة وسهولة وحيث سبق وقدمنا إضافة التجار لقيمة المنصة فنضيف هنا قيمة شركات النقل والشحن لتعزيز قيمة التجربة والمنصة أيضاً في تغطية شاملة لسلسة القيمة وتجربة العميل.
هل من مزيد؟: نعم، حان وقت وضع الكرزة على الكعكة، تذكّر "الميزة التنافسية ليست دائمة"
أياً كان المسار الاستراتيجي الذي قررت شركتكم المضي فيه، فإن الهدف كان ولا يزال "خلق ميزة تنافسية مستدامة" تصعّب المنافسة على القرناء في السوق وتعيق تقدمهم لعرض خدمات ومنتجات مكافئة أو منافسة، هدفك تعظيم قيمة الشركة والعائد المقدم للملاك وحملة الأسهم. ولكن تسارع وتيرة التغيير ودخول منافسين جدد كل يوم والتقدم التقني وتحسن أدوات الإنتاج والتصنيع وتطور آليات الابتكار وتصميم المنتجات جعل من استدامة الميزة التنافسية على المدى الطويل أمراً صعباً في بيئة أعمال يسهل فيها تقليد كل شيء، وهو ما يقودنا إلى هذا المنظور الرابع الذي ينبغي الاستفادة منه مع المناظير الثلاثة المتقدمة في إعادة تشكيل التفكير في بناء استراتيجية المنافسة في الشركات التي تتطلع إلى استمرار ريادتها وقيادتها لأسواقها.
تقترح البروفيسورة ريتا ماكجراث في كتابها "نهاية الميزة التنافسية" أن على الشركات التحرك بعيدًا عن فكرة الميزة التنافسية كشيء يمكن الحفاظ عليه لفترة طويلة. بدلاً من ذلك، تقترح مفهوم "الميزة التنافسية العابرة" حيث تنجح الشركات من خلال تبني مفاهيم الابتكار المستمر والقدرة على التكيف مع التغيرات السريعة في السوق فتبتكر باستمرار ميزة تنافسية مؤقتة أو عابرة تنتقل منها لميزة تنافسية أخرى.
هذا النموذج يرتب على الشركات مسئولية مهمة للاستثمار في استكشاف فرص جديدة باستمرار والتخلص من الأعمال أو المنتجات التي لم تعد تقدم ميزة تنافسية، مع التركيز على بناء قدرات بشرية وتقنية تسمح لها بالتحرك بسرعة وكفاءة عند تحديد فرص جديدة. هذا يعني التركيز على الابتكار، والمرونة التنظيمية، وقيادة التغيير بدلاً من الاعتماد على نماذج الأعمال التقليدية التي قد تصبح قديمة بسرعة.
خلاصة
بهذا التصور الشامل ذو الخيارات المتعددة تصبح عمليات صياغة وتنفيذ الاستراتيجية دورة مستمرة من المراقبة والبحث والتجربة والتعلم والتحسين المستمر والتغيير وبحيث يكون الغرض الأساسي لممارسي الاستراتيجية هو: تنمية القدرة المؤسسية على التنبؤ والاستكشاف والمبادرة عند ملاحظة تغير في السوق أو الأنماط السلوكية للمستهلكين، وكذلك بناء قدرات البيانات والتحليل لتغذية أصحاب المصلحة ومتخذي القرار بشكل استباقي ومستمر بما يحتاجونه من البيانات لدفع عمليات التنفيذ والتشغيل والتسويق في الاتجاه الصحيح لضمان استدامة التنافسية، وأخيرا تحسين المرونة المؤسسية للاستجابة والتنفيذ والتكيف بسرعة وفعالية مع تحولات السوق والأنظمة ورغبات المستهلكين.