في عصر يُعاد فيه تشكيل الصناعات باستمرار من خلال الابتكار، غالبًا ما يُعتبر مصطلح "الزعزعة" أو “Disruption” مرادفًا لاقتحام السوق كشركة ناشئة تنافس الشركات المهيمنة على السوق فتقوم بخفض الأسعار بشكل كبير وتقدم حلول منخفضة التكلفة للاستيلاء على أكبر حصة سوقية تقضي من خلالها على المنافس العملاق. في العادة تحضر خلال هذا النقاش قصة انهيار شركات عملاقة مثل كوداك ونوكيا وبلوكبستر كأمثلة على نجاح الزعزعة.
ومع ذلك، فإن الزعزعة الحقيقية تتجاوز استراتيجيات التسعير وحروب التخفيضات والمزايا والعروض المجانية التي تبدو في كثير من الأحيان مثل فترة شهر العسل التي تنتهي بمجرد تغيير شروط وأحكام المنتج حين تنتصر رغبة الشركات في تحقيق أرباح تعظم قيمة الشركة وتجتذب المزيد من رأس المال لدعم استراتيجيات النمو لتحقيق أهداف الزعزعة.
ترتكز الزعزعة بالأساس على صياغة عروض قيمة استثنائية تلبي احتياجات العملاء بدقة. القياس الحقيقي للزعزعة لا يدور حول توفير المنتج أو الخدمة بأرخص سعر، أو بدون رسوم "مدى الحياة" - وما شابه ذلك من تعبيرات - بل حول قدرة المنتج أو الخدمة على تلبية احتياجات العملاء بدون تحميل المنتج أو الخدمة بخصائص ومزايا تزيد من تكلفته وقيمته، وبالتالي من سعره إلى مستوى يتجاوز رغبة شريحة من العملاء في دفع تكلفة إضافية لمزايا وخصائص لا يحتاجونها.
جوهر الزعزعة: القيمة لا السعر
غالبًا ما يُساء فهم الزعزعة كسعي لتحقيق أقل الأسعار في السوق. هذا الفهم المغلوط ينبع من تصادم الأهداف بين القوى المختلفة داخل السوق؛ فالشركات الرائدة تخدم شرائح محددة ومعرّفة مسبقًا وتستبعد شرائح أخرى لأسباب تتعلق بالجدوى، بينما الشركات الناشئة تسعى - من أجل تحقيق الزعزعة - لخدمة الشرائح المستبعدة أو غير المخدومة وإيجاد أسواق جديدة من خلال تحدي العروض القائمة.
يكشف التحليل والملاحظة أن المبتكرين الحقيقيين يعيدون تعريف الأسواق ويبتكرون أسواقًا جديدة من خلال تقديم نماذج أعمال وعروض قيمة جديدة وجذابة. لم تقدم شركات مثل "أبل" و"تيسلا" و"إير بي أن بي" بدائل أرخص وأقل سعرا، بل أعادوا تعريف التوقعات داخل صناعاتهم، مقدمين منتجات وخدمات استجابت للاحتياجات غير الملباة أو الشرائح المهملة من العملاء، وأوجدت سوقًا جديدة لاحتياجات مبتكرة. لقد نجحوا لأن عروضهم القيمية الموجهة للعملاء "Customer Value Proposition" صُممت ليس فقط للتنافس على السعر ولكن لتقديم "قيمة" مميزة بشكل فريد وابتكاري وجذاب.
يجب أن توضح عروض القيمة بوضوح كيف يحل المنتج أو الخدمة مشكلة أو يحسن وضع العميل بطريقة جديدة ومبتكرة. يتعلق الأمر بفهم وتقديم ما يقدره العملاء حقًا، والذي قد يشمل عوامل مثل الراحة، التخصيص، الاستدامة، أو تحسين تجربة المستخدم. عندما تركز الشركات فقط على خفض التكاليف، قد تجذب بعض الاهتمام من السوق في البداية، ولكن مثل هذه الاستراتيجيات ليست مستدامة إذا لم تتناسب مع احتياجات وتفضيلات المستهلك بعمق.
مخاطر المبالغة في القيمة وخلق شرائح مستبعدة
أحد جوانب الزعزعة الحاسمة هو التعرف على خطر المبالغة في تحميل المنتجات والخدمات بخصائص ومزايا تتجاوز احتياجات العملاء المستهدفين. عادةً ما تحدث المبالغة عندما تتجاوز ميزات أو جودة المنتج ما يرغب معظم المستهلكين في دفع ثمنه، وهذه الظاهرة نتيجة حتمية للالتزام الساذج بمنهجيات الانتاج القياسي والتحسين المستمر وفق منظور داخلي بحت لا يأخذ بعين الاعتبار رغبات واحتياجات المستهلكين التي تتغير مع الوقت متأثرة بعدة عوامل. هذا الوضع ينتج شرائح مستبعدة من العملاء بسبب هذا الخلل في تصميم المنتج أو الخدمة، حيث أنه مع الوقت تزداد نسبة العملاء التي تتأثر بارتفاع تكلفة المنتج فتبحث عن بدائل أنسب أو تتحول للمنافسين.
يخلق هذا الوضع فرصة ملائمة للمبتكرين لدخول السوق بحلول وعروض قيمة تطابق بشكل أفضل السعر الذي يريده العملاء مع الميزات التي يحتاجونها حقًا. على سبيل المثال، في أيام الكمبيوتر الشخصي الأولى، شعر العديد من المستهلكين بالإرهاق من الأنظمة المعقدة والغنية بالميزات التي كانت أكثر مما يتطلبون. استطاعت العلامات التجارية التي قدمت بدائل أكثر سهولة في الاستخدام، وغالبًا ما تكون أقل تكلفة، الاستحواذ على جزء كبير من السوق من خلال مطابقة عروضها بشكل أوثق مع احتياجات العملاء.
في عام ١٩٨٤ أسس مايكل ديل شركته من غرفته في مهجع الجامعة وخلال ٥ سنوات نمت قيمة الشركة إلى ٣٠٠ مليون دولار، لقد كان لنموذج عمله آثاراً مزعزعة على سوق أجهزة الكمبيوتر الشخصي في مواجهة عمالقة مثل شركة آي.بي.إم حيث اعتمد على تخصيص بناء أجهزة الكمبيوتر الشخصي عند الطلب وبحسب احتياجات العملاء الفعلية من الخصائص والمزايا. تطورت الصناعة بشكل استجاب بشكل أوضح لاحتياجات العملاء والقيمة التي تقدمها المنتجات أكثر من الاهتمام بعرض قياسي موحد موجه لجميع العملاء باختلاف شرائحهم واحتياجاتهم.
الزعزعة الاستراتيجية من خلال ابتكار القيمة
الطريق الأمثل إلى تحقيق الزعزعة يكون من خلال انتهاج مبدأ ابتكار القيمة. وهذا يتضمن إنشاء واستغلال عروض القيمة الفريدة التي تحيد المنافسين وتعيد تعريف السوق. يتطلب ذلك فهمًا عاليًا لاحتياجات العملاء الحالية والمستقبلية، وكذلك القدرة على الاستجابة لهذه الاحتياجات بطريقة إبداعية. تنجح الشركات المبتكرة من خلال صياغة عروض قيمة ليست أرخص فقط ولكن أكثر جاذبية من حيث الفوائد والمنافع التي تقدمها والتي تمثل القيمة التي يبحث عنها العملاء.
الاستفادة من منهجيات مثل الابتكار المدفوع بالنتائج Outcome Driven Innovation وتوظيف مثل هذه المنهجية مع منهجية وأدوات التفكير التصميمي والاستفادة من نظرية مثل نظرية المهام التي يجب أداؤها يخلق مستوى جديد من الفهم لاحتياجات العملاء الحقيقية ويدفع عجلة الابتكار المتمحور حول العملاء في الاتجاه الصحيح، يعمل هذا النظام بكفاءة عندما يقابله ثقافة مؤسسية تؤمن بالابتكار وأدواته وتتجاوز المنهجيات البدائية المعتمدة على هندرة الإجراءات الداخلية والتجربة والخطأ.
في الختام، الزعزعة ليست عن كونك الخيار الأرخص؛ إنها عن كونك الخيار الأفضل من حيث القيمة التي تقدمها. الشركات التي تفهم وتعتنق هذا المبدأ تميز نفسها في سوق مزدحم، لأنهم لا يسعون فقط للتفوق على المنافسين في السعر ولكن يسعون لتقديم شيء مختلف وأفضل، بهذه الطريقة يعيدون تشكيل مشهد صناعاتهم بطرق لا يمكن لخفض الأسعار وحده أن يحققها. هذا التحول من نهج مركز على السعر إلى نهج مركز على القيمة أمر حاسم لأي عمل يهدف إلى الزعزعة والهيمنة في مجاله.